رامي زهدي يكتب:«حول آلية “عملية الخرطوم” لمواجهة ظاهرة الهجرة الغير نظامية»

في الوقت الذي يتزايد فيه الجدل العالمي حول قضايا الهجرة واللجوء، تظل “الهجرة غير النظامية” تحديًا اقتصاديًا عميق التأثير، لا يقتصر أثره على البُعد الإنساني أو الأمني فحسب، بل يمتد ليُلقي بظلاله الثقيلة على اقتصادات الدول، سواء كانت دول مصدر، أو عبور، أو مقصد.

ومن هنا تبرز أهمية انعقاد المؤتمر الوزاري لعملية الخرطوم الذي عقد في القاهرة، كمنصة استراتيجية لترسيخ التعاون الإفريقي الأوروبي المشترك في مواجهة الظاهرة، واحتواء تداعياتها متعددة الأبعاد، وفي القلب منها الخسائر والتكاليف الاقتصادية التي تفرضها الهجرة غير النظامية على الجميع دون استثناء.

“اقتصاد دول المصدر.. شباب مهدور واستثمارات ضائعة”

تتحمل دول المصدر في إفريقيا العبء الأكبر، حيث تُنزف قدراتها البشرية قبل أن تُستنزف مواردها الاقتصادية. فحين يهاجر آلاف الشباب بشكل غير نظامي، فإنهم يحملون معهم ما تبقى من الأمل في تنمية اقتصاداتهم الوطنية. هؤلاء ليسوا مجرد أفراد، بل طاقات منتجة، ورؤوس أموال بشرية كانت يمكن أن تتحول إلى محركات للنمو، وروادًا لمشروعات صغيرة، وقوى عاملة في قطاعات الزراعة والصناعة والخدمات.

لكن بدلًا من ذلك، تفقد الدول المصدّرة للهجرة غير النظامية استثماراتها في التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية التي أنفقتها على مواطنيها، ليعيدوا إنتاج القيمة في دول أخرى، أو يقعون ضحية لشبكات الجريمة المنظمة.

“دول العبور.. اقتصادات هشة في وجه الأزمات”

أما دول العبور، وغالبًا ما تكون من الاقتصادات النامية والهشة، فهي تواجه ضغوطًا هائلة على بنيتها التحتية، وخدماتها الأساسية، وقدرتها الإدارية على التعامل مع أعداد كبيرة من المهاجرين المؤقتين.

إن تكلفة تأمين الحدود، وملاحقة شبكات التهريب، وإدارة المخيمات، وتقديم الحد الأدنى من المساعدات الإنسانية، تستنزف ميزانيات هذه الدول وتخلق توترات داخلية، خاصة في ظل شُح المساعدات الدولية، أو توجيهها نحو الأهداف الأمنية فقط دون معالجة جذرية للتنمية.

“دول المقصد.. كلفة مزدوجة بين الأمن والاندماج”

أما الدول الأوروبية المستقبلة للهجرة غير النظامية، فغالبًا ما تنظر إلى الظاهرة من زاوية الخطر الأمني والثقافي، لكن الواقع يؤكد أن التحدي الأكبر اقتصادي بامتياز. فاستقبال مهاجرين غير نظاميين يُحمّل الموازنات العامة أعباء ضخمة من حيث الإيواء، والرعاية الصحية، والتعليم الطارئ، ومعالجات الاندماج، إلى جانب ما يُنفق على حراسة الحدود، وإجراءات الترحيل.

وفي حال لم تنجح سياسات الدمج، فإن اقتصاد الظل يتضخم، وسوق العمل يتعرض للاختلال، مما يُسبب توترات مجتمعية وتراجعًا في الإنتاجية، في وقت كانت القارة الأوروبية تسعى لتجاوز آثار الأزمات الاقتصادية العالمية.

“مصر.. من عبور إلى مقصد نموذجي”

في هذا السياق المعقد، يأتي انعقاد المؤتمر الوزاري لعملية الخرطوم بالقاهرة ليُعيد التأكيد على مكانة مصر المحورية، ليس فقط كموقع جغرافي استراتيجي، بل كنموذج في تحويل تحديات الهجرة إلى فرص تنموية.

لقد نجحت مصر، على مدار السنوات الماضية، في التحول من دولة عبور إلى دولة مقصد آمنة للمهاجرين واللاجئين، عبر سياسات حكيمة تُوازن بين الأمن وحقوق الإنسان والتنمية، وهو ما جعل منها طرفًا موثوقًا إقليميًا ودوليًا، ورئيسًا للمؤتمر للمرة الثانية بعد عام 2016.

إن رؤية مصر الحالية خلال رئاستها لعملية الخرطوم تُكرس لمنهج اقتصادي واضح في معالجة ملف الهجرة، يقوم على دعم التنمية في دول المصدر، وبناء القدرات المؤسسية، والتمكين الاقتصادي للفئات الأكثر عرضة للهجرة، وعلى رأسها الشباب والمرأة.

“التحدي الاقتصادي المشترك.. والحل في التنمية”

المعادلة باتت واضحة: كل دولار يُنفق في التنمية داخل دول المصدر، يساوي عشرات الدولارات التي تُهدر لاحقًا في سياسات المنع، أو معالجة الكوارث الناتجة عن الهجرة غير النظامية.

ومن هنا، يُشكل المؤتمر الوزاري في القاهرة فرصة حقيقية لإعادة صياغة أولويات التعاون الإفريقي الأوروبي، عبر:

زيادة الاستثمارات التنموية في دول الهشاشة، بما يخلق وظائف وفرصًا جديدة محليًا، وربط الهجرة بمشروعات اقتصادية إقليمية تُسهم في تعزيز التكامل، وخلق شبكات عمل وتشغيل عابرة للحدود.،  وكذلك تعزيز مشاركة القطاع الخاص والمجتمع المدني، كشركاء اقتصاديين وتنمويين لا غنى عنهم في تنفيذ سياسات واقعية ومستدامة.

“عملية الخرطوم.. إطار اقتصادي بامتياز”

منذ انطلاقتها عام 2014، جاءت عملية الخرطوم كمبادرة تُركّز على البعد الإنساني لظاهرة الهجرة، لكن مع تعقّد الأوضاع وتداخل الأزمات، بات من الضروري إعادة التأكيد على أن المدخل الاقتصادي هو الأنجع والأكثر استدامة.

فالدول الإفريقية لا تُطالب بالمساعدات، بل تسعى لفرص عادلة في الاستثمار والتجارة والتعليم، وما المؤتمر الوزاري الحالي إلا ترجمة لهذه الرغبة في شراكة جديدة تقوم على التنمية بدلًا من الإقصاء، وعلى التمكين بدلًا من الحصار.

“شراكة من أجل الإنسان والاقتصاد”

في النهاية، يبقى التحدي الحقيقي أمام المجتمع الدولي هو تحويل ظاهرة الهجرة غير النظامية من عبء إلى فرصة، ومن تهديد إلى مسار للتنمية المشتركة. ولن يتحقق ذلك إلا إذا وضعت العدالة الاقتصادية في صميم الحلول، وإذا التزمت الدول الكبرى بدعم حق الشعوب الإفريقية في النمو والاستقرار داخل أوطانها.

ومصر، برؤيتها العادلة وموقعها الجغرافي ودورها التاريخي، تظل في قلب هذا الجهد، تسعى كما كانت دومًا لأن تكون جسرًا بين القارات، ورافعة للحلول، ومصدرًا للأمل والتنمية الحقيقية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى