رامي زُهدي يكتب :”إفريقيا.. ملاذ آمن وضوء واضح في ضباب الصراع الاقتصادي المأزوم”
رامي زُهدي – خبير الشؤون الإفريقية السياسية والاقتصادية

في خضم صراع اقتصادي عالمي محتدم، يوشك أن يعصف ببنية النظام المالي العالمي ويعيد تشكيل معادلات الهيمنة والنفوذ، تبدو القارة الإفريقية، وكأنها آخر الرهانات الرابحة لإنقاذ الاقتصاد الدولي من انهيار وشيك. فالعالم الذي بات يرزح تحت وطأة أزمات متلاحقة من تخبط في سلاسل الإمداد إلى الندرة الغذائية، ومن الطاقات البديلة إلى اختناق الأسواق بدأ يعيد اكتشاف إفريقيا مرة أخري، لا باعتبارها مجرد قارة تحتاج للمساعدة، بل بوصفها أهم وأكبر سوق استهلاكية ومنتجة صاعدة في العالم.
فمع اقتراب عدد سكان القارة من 1.5 مليار نسمة، ونسبة شباب تبلغ أكثر من 60% من مجموع السكان، تبدو إفريقيا أقرب إلى أن تكون محرك الطلب الاستهلاكي العالمي خلال العقدين المقبلين. وهذه الكتلة السكانية الهائلة، لا تُمثّل عبئًا كما يظن البعض، بل تُشكل موردًا بشريًا منتجًا، وسوقًا مفتوحة أمام السلع، والخدمات، والتقنيات الحديثة، في ظل تمدد الطبقة الوسطى وازدياد معدلات التعليم والتحول الرقمي، وخاصة ان فئة الشباب هي الأقدر علي العمل والأنتاج والكسب وهي أيضا الأكثر رغبة للأنفاق والأستهلاك.
إفريقيا التي تملك ما لا يملكه غيرها من موارد خام استراتيجية، فأكثر من 60% من الأراضي الزراعية غير المستغلة عالميًا هي اراضي افريقية، بينما ثلث احتياطي العالم من المعادن النادرة، كالكوبالت والليثيوم، فضلًا عن احتياطات ضخمة من النفط والغاز، ومصادر طاقة متجددة واعدة في مجالات الطاقة الشمسية والرياح والمياه كلها موطنها القارة الإفريقية. وهذه الثروات، في حال إدارتها وتحالف الاستثمارات العادلة معها، يمكن أن تجعل إفريقيا المصدر الأساسي للمواد الخام الحيوية في الثورة الصناعية القادمة، وهو احتياج وضرورة للعالم لا اختيار.
بينما ومع تصاعد تكلفة الإنتاج في آسيا وأوروبا، وتزايد دعوات تقليل الاعتماد على سلاسل الإمداد الطويلة، تتحول أنظار الشركات العالمية نحو إفريقيا كموقع بديل للإنتاج الصناعي منخفض التكلفة، وقريب من الأسواق الكبرى في أوروبا والشرق الأوسط. وخاصة في ظل وجود المبادرات القارية مثل اتفاقية التجارة الحرة القارية الإفريقية (AfCFTA) والتي تعزز من هذا التوجه، وتسعى لتحويل القارة إلى تكتل اقتصادي عملاق، يُشجّع على توطين الصناعات، ويُقلل من الاعتماد على الواردات الخارجية، إضافة الي ذلك فقد أظهرت إفريقيا قدرة لافتة على تبني الحلول الرقمية، لا سيما في مجالات الخدمات المالية عبر المحمول، والتعليم عن بعد، والتجارة الإلكترونية، ما يجعلها مؤهلة لأن تكون مركزًا للتجربة التكنولوجية الجديدة التي لا تعيد تكرار النماذج الغربية التقليدية، بل تقفز إلى المستقبل مباشرة. ويكفي أن نذكر أن دولًا مثل مصر وكينيا ونيجيريا ورواندا بدأت تقود قاطرة الابتكار التكنولوجي في القارة.
وبرغم تراجع نسب النمو العالمي، تواصل إفريقيا تسجيل معدلات نمو مستقرة في العديد من بلدانها، كما أظهرت الاقتصادات الإفريقية مرونة عالية في مواجهة جائحة كورونا، وتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، ما يدل على قدرة القارة على امتصاص الصدمات والتكيّف السريع، إذا ما توفرت الإرادة السياسية والتخطيط الاقتصادي السليم، كل هذا رغم أزمات القارة المزمنة والتحديات المستمرة التي تواجه كل دول القارة.
ولقد بدأ العالم يعيد التفكير في موازين القوى الاقتصادية، ويُدرِك أن الحلول لم تعد حكرًا على الشمال الغني، بل يمكن أن تأتي من الجنوب الصاعد. وإفريقيا، بما تملكه من موقع استراتيجي، وموارد، وطاقة بشرية، تتحول تدريجيًا إلى “الملاذ الآمن” لشركات الاستثمار، وصناديق التمويل، وحتى للدول الباحثة عن شركاء لا منافسين.
إن استمرار الصراع الاقتصادي بين القوى الكبرى، وخطر تشظي النظام التجاري العالمي، يجعلان من إفريقيا ليس فقط سوقًا واعدة، بل المنقذ المحتمل للاقتصاد العالمي. نحن أمام فرصة تاريخية: إما أن نرى في إفريقيا مصدر خطر أو عبء، أو نراها كما ينبغي أن تكون القاطرة الجديدة للنمو، والشريك الأهم في رسم خريطة اقتصاد الغد، ومصر تحديداََ ولأسباب كثيرة يمكن أن تكون في قلب هذا التحول، وأن تلعب دورها التاريخي في قيادة توجه استراتيجي جديد يُعيد الاعتبار للعلاقات الإفريقية الإفريقية، ويُشجّع على تكامل إنتاجي واستثماري، يُبنى على أسس من المصالح المشتركة، لا من بقايا الميراث الاستعماري.
فالقارة التي أنقذت العالم قديمًا بالذهب والقطن والموارد، هي نفسها التي قد تنقذه غدًا بالمعرفة، والإنتاج، والتكامل والثروة البشرية الهائلة.